تقارير

فلسطين وشعبها في قاموس الزعامات العربية

فلسطين وشعبها في قاموس الزعامات العربية

خلال أول ١٨ شهرا من ثورة ١٩٣٦ فقدت بريطانيا سيطرتها على ثلاثة مدن فلسطينية، القدس والخليل ونابلس، وبئر السبع كانت في كر وفر بين الثوار والاحتلال البريطاني، رغم كل ما تعرضوا له من إجرام ووحشية وغدر وخسة من الإنجليز والصهاينة والعرب أيضا، إلا أن هؤلاء الأبطال كانوا قاب قوسين من النصر حتى أنهم جعلوا الإنجليز ويهودهم يضعون في خلدهم وطنا بديلا لليهود غير فلسطين.

في يوليو ١٩٣٧ أصدرت لجنة بيل الملكية تقريرها القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وإلى قسم عربي يضم لشرق الأردن، وارتأت فرض ذلك بالقوة، حتى لو أدى ذلك للقوة المفرطة، كما دعت لإلغاء الانتداب والعودة للحكم العسكري، وقد أدت نتيجة هذا التقرير إلى غضب فلسطيني وعربي واسع.

وحين طلبت لجنة بيل الملكية من أمير البحرين حمد بن عيسى، رأيه في قرارات اللجنة بخصوص تقسيم فلسطين، قال لهم: “لا أعرف فلسطين ولا أعرف موقعها ولا حتى أعرف أهلها”.

(IOR/R/15/2/165- C/580-1.8/48325)

وكانت وزارة المستعمرات البريطانية قد أرسلت بتقرير لجنة بيل الملكية قبل نشره رسميا بأربع وعشرين ساعة إلى ابن سعود لجس نبضه.

سلمته لحافظ وهبه كي يشرح لابن سعود كافة قراراته، وحين اطلع على كل شيء، غضب غضبا شديدا، فبريطانيا التي فعل من أجلها كل شيء، ووعد وعدا باطلا من أجلها وكذب وخدع من أجلها، لم تحسب حسابه في شيء، أظهرته بمظهر الكذاب المخادع أمام الجميع وبالأخص الشعب الفلسطيني، فبأي وجه سيقابلهم الآن؟

نصحه الذين من حوله أن “ينتقم” ويعترض على تقسيم فلسطين والهجرة اليهودية علنا، وليكن ما يكون، ولكن كيف لمثله أن يشق عصا الطاعة على من صنعته ولا زال ينتظر منها الكثير، كما تبين أن غضبه الأكبر كان بسبب ضم الجزء الفلسطيني حسب لجنة بيل، لمملكة عدوه الأكبر عبد الله بن الحسين.

زعامات العرب ابتزوا بريطانيا باسم الثورة الفلسطينية الكبرى

طلب ابن سعود من كامل القصاب أن يتحسس موقف أمين الحسيني بعد إعلان التقرير، فأخبره بأن أمين الحسيني غاضب جدا من التقرير، كان ابن سعود يعي جريمته بحق أمين الحسيني والشعب الفلسطيني ككل حين أوقف الإضراب والثورة، وقبل ذلك أجبر أمين الحسيني واللجنة العربية العليا على مقابلة لجنة بيل حين قاطعوها.

في ٢٠ /٧ / ١٩٣٧ قابل ابن سعود السفير البريطاني الجديد في جدة ريدر بولارد، وسأله: هل قرارات لجنة بيل لا رجعة فيها؟ اجابه بولارد بنعم!، فطلب مجددا استعادة العقبة ومعان من الأمير عبد الله، إذن هنا يؤكد مجددا أن غضبه لم يكن إلا بسبب ضم القسم العربي من فلسطين لتكن تحت حكم الأمير عبد الله بن الحسين.

كما أبلغ ابن سعود السفير “بولارد” أنه مضطر أن يضم صوته للأصوات السورية المطالبة بلواء الإسكندرون من تركيا.

لم يكن ابن سعود وحده من زعامات العرب الذين ابتزوا بريطانيا باسم الثورة الفلسطينية الكبرى، بل كل الزعامات العربية تقريبا فعلت نفس الشيء، فحين عرفت هذه الزعامات وجع بريطانيا الغارقة في نيران الثورة الفلسطينية، مسكتها منه، ولكن كله كان على حساب فلسطين وشعبها.

فكانت المعاهدة الإنجلو ـ مصرية التي وقعت في ٢١ /٨ / ١٩٣٦، والمعاهدة الإنجلو عراقية، تم التصديق عليها في ٣٠ /٦ / ١٩٣٦، وساندت فرنسا حليفتها بريطانيا بتوقيع معاهدة مع السوريين في ٩/ ٩/ ١٩٣٦، ومع لبنان في ١٣ /١١/ ١٩٣٦، فيما بعد حين خف الضغط على الإنجليز في فلسطين، قامت فرنسا بإلغاء معاهدة الاستقلال مع السوريين بحجة رفض تصويت البرلمان الفرنسي عليها.

هذه المرة وبعد غضب الحاج أمين الحسيني بعد الكشف عن نتائج لجنة بيل، لم يحتمل ذلك المندوب السامي البريطاني “ووتشوب” فالآن ثمة أصوات بريطانية تدعو حتى لقتله مثل وينستون تشرشل.

وجاءت فرصتهم، ففي أيلول طلب رجالات الثورة الفلسطينية من أمين الحسيني ولجنته العليا عقد مؤتمر في سوريا من أجل إطلاع العالم العربي علي ما يجري في فلسطين، وما يحاك بها وبمقدساتها وأهلها خاصة بعد تقرير لجنة بيل، وطالبوا العرب بالوقوف صفا واحدا من أجل الوقوف ضد تقسيم فلسطين ومناصرة الثورة الفلسطينية بكل الأساليب.

وعقد المؤتمر في أيلول ١٩٣٧، حاول ابن سعود إيقافه عبر الشيخ النصاب، كامل القصاب، لكن الوقت كان متأخرا، فأرسل حافظ وهبه للمؤتمر كجاسوس لا لشيء آخر، بقية حكام الخليج أيضا قاطعوا هذا المؤتمر بطلب بريطاني.

عندما دعي أمير الكويت أحمد الجابر الصباح للمؤتمر رفض، وحين حاول المنظمون شرح أهمية وجوده أو من يمثله، قال لهم “مثلوني أنتم”!، كان دوره سلبيا أيضا حين دعا تجار الكويت من أجل تقديم العون للثورة ١٩٣٦، فقد رفض حضور مؤتمرهم بل حاول عرقلته، وحين فشل في ذلك ذهب في رحلة صيد حتى يقال إنه حدث في غيابه.

لم يحفظ التاريخ اسمه لكنه حفظ اسم السيدة الكويتية “شاهه حمد الصقر” التي باعت محلها التجاري الوحيد وتبرعت به للثورة، بعد أن وجهت نداءات مبكية تحض أهل الكويت رغم ضيق يدهم للتبرع من أجل إنقاذ فلسطين.

في ذلك الظرف وبعد أن ورد تقرير الجاسوس اليهودي (×) الذي حضر الاجتماع السري لمؤتمر بلودان، وذكر فيه أن الحاج امين الحسيني طلب إعلان الجهاد، هنا حاول المندوب البريطاني السامي “ووتشوب”، اعتقال أمين الحسيني والذي حين علم بالأمر هرب إلى لبنان.

كتب ابن سعود للحاج أمين الحسيني عبر مراسيله، ما يلي “إننا لم ندخر جهدًا أبدًا ولن نتراخى في مسعانا حتى النهاية. ولكن التباهي في الأمور التي ستؤول إلى العدم هي خطأ… إخواننا في سورية وفلسطين يجب أن يعلموا جميعًا أن مصلحتنا الكبرى هي أن يصلوا إلى الأهداف التي تصون مصالح البلاد وشرف العرب، وإننا نرجو أن نحقق لهم ما يحفظها”!.

خيانة ابن سعود لفلسطين وشعبها

كان يتضح ذلك “الشرف” كثيرا بالذات لأمين الحسيني الذي حين قدم للحج، قام أمن ابن سعود بمصادرة حتى المنشورات المتعلقة بفلسطين والذي كان يود توزيعها لشخصيات إسلامية ضمن الحجيج.

ولكن “الشرف” يتضح أكثر حين كتب ابن سعود في نفس الوقت برقية إلى المندوب البريطاني السامي “ووتشوب” ناصحا.. ما يلي :”ما كان ينبغي ترحيل المفتي دون ما يبرر الترحيل – وكان يجب عليك استشارتي في ذلك- فلدينا القدرة معا أن نقص أجنحته بشكل فعال متى أردنا”!، ولك الله يا فلسطين.

كان الشاعر الفلسطيني الشعبي الثائر عوض قد أعدمته السلطات البريطانية في سجن عكا عام ١٩٣٧، لمشاركته في ثورة ١٩٣٦ التي أوقفتها العرب، وجدوا على جدار زنزانته قبل فجر إعدامه قد كتب:

“ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال .. تخسى الملوك أن كان هيك الملوك انذال”

والله تيجانهم ما يصلحوا النا نعال .. احنا اللي نحمي الوطن ونبوس جراحو”.
رحمك الله يا عوض ما أصدقك.

لم تصمت جزيرة العرب، فقد وجه أحرارها من جيزان إلى الرياض إلى الحجاز نداءات عديدة لابن سعود من أجل إعلان الجهاد من أجل فلسطين، وتبرع أصحابها أن يكونوا مع المجاهدين، لكن ابن سعود صد هذه النداءات، وهدد أصحابها، كما وأبلغ الإنجليز بكافة هذه المراسلات.

(PRO- HW 12/219- 69255)

حتى الأرشيف الصهيوني المركزي يحتفظ برسائل هؤلاء الأحرار الذين طالبوا ابن سعود بالجهاد من أجل فلسطين.

(CZA, S25/22776)

في ظل هذا الصراع الذي لاقاه ابن سعود من العالم العربي والإسلامي بسبب خذلانه لفلسطين من أجل مصلحة بريطانيا، كتب إليه سفيره في لندن، حافظ وهبه كي يخفف عنه: “دعك من فلسطين وانظر لقضايا العالم العربي الكبيرة، فما فلسطين إلا قطعة صغيرة من أرض الآباء والأجداد العظيمة”.

(الارشيف البريطاني- البرقيات المشفرة من حافظ وهبة لابن سعود ١٥/ ١٠ / ١٩٣٧ H W 12/220- 069576)

كلمة غريبة لا يمكن أن تصدر عن شخص له قدم في الإسلام، فهكذا أصبحت فلسطين بقدسها وقبلتها الأولى وبثراها المجبول بدماء الفاتحين، ما هي إلا قطعة صغيرة لا تستحق أن ينظر إليها.

المصدر: موقع وطن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق