تقارير

“سيف القدس” تعيد القضية الفلسطينية لمكانتها الطبيعية والإمارات الخاسر الأكبر بعد “إسرائيل”

خاص – مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

من الطبيعي إن نتيجة أي معركة في النهاية ستسفر عن خاسرين ومنتصرين، ويختلف مفهوم الخسارة والانتصار على حساب نوع المعركة وتداعياتها وتوقيتاتها، وكذلك على نوعية من شارك فيها، فالانتصار الذي يمكن أن يحتسبه طرفًا ما نصرًا، يعتبره الطرف الأخر بالنسبة له مجرد تراجع تكتيكي. وهكذا الأمور تجري في صراعات العالم ومنها صراع أمتنا العربية والإسلامية مع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والإسلامية في فلسطين.

فبعد أن اضطرت “إسرائيل” وقف إطلاق النار من جانبها أولًا، والذي حَمَلَ اعترافًا ضمنيًا من قبلها بخسارتها للمعركة، لأنها أقرَّت بتنفيذ شروط المقاومة فيما يتعلق بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وكان انتصارًا للمقاومة الفلسطينية، لأنها هي من قامت بتحديد وقت بدأ المعركة، وهي من فرضت شروط وقفها، وهو نصرٍ كبير مقارنة بإمكانياتها قبل بضعة سنوات، ومقارنة بإمكانيات العدو المحتل. أما الكلام عن مدى تأثير هذا الانتصار للمقاومة مستقبلًا من الناحية الاستراتيجية، وتأثيرها على التوازنات السياسية والعسكرية، بل وحتى تأثيرها على مستقبل التطبيع مع الكيان الصهيوني، وحرب الأنظمة العربية على المقاومة الفلسطينية وباقي الحركات والجماعات الإسلامية.

لم تخسر “إسرائيل” المعركة وحدها إنما خسِرَ معها المُطبّعون

وبشكل بسيط وواضح، يمكننا القول أن الخسارة التي مُنيت بها “إسرائيل” في هذه المعركة، سواء على مستوى عدم قدرتها على وقف ضربات المقاومة الصاروخية، أو خسارتها السياسية من خلال تنفيذها لشروط المقاومة، وخسارتها أمام المجتمع الدولي على اعتبارها الطرف الذي يتعمد قتل المدنيين والأبرياء، كانت هناك خسارة أخرى لحلفها غير المعلن الجديد الذي أقامته مع دول التطبيع وعلى رأسها عرابة التطبيع دولة الإمارات. فهذه الدولة التي هرولت للتطبيع، وفي ظرف بضعة أشهر، لم تبقي شيء يساهم في تقوية التطبيع مع الكيان وتشجيع الدول العربية والضغط عليها من أجل التطبيع، إلا وفعلته، وقامت بإنشاء الاستثمارات الاقتصادية وزادت من عمليات التبادل التجاري مع الكيان، لكي تصنع من هذا التطبيع حقيقة لا يمكن تغافلها، ولا إمكانية لمحوها. لكنها بعد انتصار المقاومة وخسارة الكيان الواضحة، وجدت نفسها إنها مع الطرف الخاسر، ورغم كل حملاتها الإعلامية التي تقودها لتغيير الحقائق، إلا أنها فشلت في وقف التعاطف الشعبي الكبير مع انتصارات المقاومة، ليس على المستوى العربي والخليجي فقط، إنما حتى على مستوى العالم.

وأصبح موضوع التطبيع الذي تروج له وتُشجع عليه في مهب الريح، وتغيير المزاج العربي والإسلامي، بل وحتى المزاج العالمي ضد هذا التطبيع، وضد تصفية القضية الفلسطينية، ورجَعَ موضوع الحقوق العربية الفلسطينية ليكون هو القضية الأولى من جديد في اهتمام العالم العربي والإسلامي، بعد أن بذلت الإمارات ودول التطبيع، أموالًا ضخمة لتصفية هذه القضية، وتحول التوجه السياسي الأوربي من حركات المقاومة التي تتهمها الإمارات بالإرهاب، إلى توجه سياسي أخر جديد، واعتبرت المقاومة وعلى رأسها حماس، جزء من حل القضية الفلسطينية، ولا بد لأوروبا من التعامل معها بشكل مباشر أو غير مباشر.

هذا ما جاء على لسان مسؤول أوربي رفيع المستوى لقناة الجزيرة حينما قال: “يمكن للأوربيين التواصل مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد المصالحة الفلسطينية، وذلك في ظل سريان وقف إطلاق النار” وأوضح المسؤول، “يمكن للاتصالات مع حماس أن تتم بشكل مباشر أو غير مباشر عبر طرف ثالث، لأنها جزء من الحل”، وبالتأكيد فأن تغير الموقف الأوربي بهذا الشكل، يعتبر انتصارًا سياسيًا عظيمًا للمقاومة الفلسطينية، لاختراق الموقف الأوربي والموقف الدولي.

وفي ظل هذه المعطيات الجديدة، يجد حاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد نفسه اليوم، في مأزق شديد، ليس لكونه “عراب التطبيع مع إسرائيل”، إنما لأنه جعل من نفسه رأس حربه في توقيع “اتفاقيات أبراهام”، وقام بضخ الأموال والاستثمارات في هذا الكيان. لكن إقرار الكيان الصهيوني بهزيمته، يعني لابن زايد، خسارة على المستوى السياسي والاقتصادي، وفشلٍ لعملية التطبيع التي يقودها ويتحمس لها. كما أن الهجوم الوحشي الذي شنه جيش الاحتلال الصهيوني ضد المدنيين في غزة وباقي مدن فلسطين، عرَّى مزاعم الإمارات، من أن تطبيعها مع الكيان، يهدف لتوفير السلام للفلسطينيين، لأن الأحداث الأخيرة التي شهدتها فلسطين، بيَّن للعالم إن إسرائيل لم ولن تتوقف عن اجرامها.

https://twitter.com/ramla2018/status/1394816707332612096?s=20

ما طبيعة الخسارة الإماراتية في معركة “سيف القدس”؟

حكام الإمارات، ومنذ الإعلان عن تطبيعهم مع الكيان الصهيوني، اندفعت بسرعتها القصوى ليس فقط لإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل سفراء مع الكيان، إنما قامت بضخ استثمارات هائلة في الاقتصاد الإسرائيلي، وفي شتى المجالات، طيران وسياحة وتطوير ميناء حيفا وتشغيل خط أنابيب إيلات-عسقلان لنقل النفط الإماراتي مباشرة إلى إسرائيل وأوروبا دون المرور في قناة السويس المصرية، إلى اتفاقيات مع البنوك الإسرائيلية، وشتى أنواع التحالف الاستراتيجي. وخلال شهور، تحول التحالف الإماراتي الإسرائيلي إلى شيء يثير دهشة المراقبين، ووصلت الأمور إلى توقيع تحالف رباعي بين الإمارات وإسرائيل واليونان وقبرص تحت مسمى “منتدى شرق المتوسط”.

كل هذه الإجراءات الإماراتية لتطبيع العلاقة الإستراتيجية مع الكيان الصهيوني وعلى مختلف الأصعدة، جعلها بعد معركة “سيف القدس” في مرمى الغضب الشعبي، ووجد حكام الإمارات أنفسهم في مواجهة لم يحسبوا لها حساب، وهي التي كانت تخطط لاختراق وعي المجتمع العربي والإسلامي من خلال دعاياتها الكاذبة طيلة الفترة السابقة، وجندت لأجل ذلك، كبرى الوسائل الإعلامية، والعديد من الناشطين والكتاب والمفكرين.

أما اقتصاديًا، فأن من الصعب تحديد حجم الخسائر الإماراتية الكبيرة جراء معركة “سيف القدس”، فقطاع السياحة الإسرائيلي الذي استثمرت فيه الإمارات، تعرض لخسائر فادحة، حينما أعلنت كبرى شركات السياحة حول العالم إلغاء رحلاتها المقررة للدولة الصهيونية، بعد أن وصلت صواريخ المقاومة إلى جميع مناطق البلاد بما فيها المطارات الدولية، مما انعكس سلبًا على الاستثمارات الإماراتية.

فيما تعرضت الإمارات لخسارة لا يُعرف مدى حجمها بسبب اشتعال النيران في خط أنابيب إيلات-عسقلان، واشتعال النيران في الصهاريج العملاقة لمشتقات النفط الإماراتي في ميناء عسقلان، واشتعال النيران أيضًا في حقل “لفتيان” للغاز الطبيعي قبالة حيفا، بعد أن ضخت الإمارات، استثمارات ضخمة في تطوير الموانئ وقطاع الطاقة الإسرائيلي.

كما أن عودة القضية الفلسطينية لوضعها الطبيعي كقضية أولى لدى الشعوب العربية والإسلامية، جعل الإمارات يُنظر لها، على إنها في كفة واحدة مع تل أبيب، ولم تعد الدعاية الإماراتية تجِدُ أذانًا صاغية بسبب فقدانها كلَّ منطق.

الانتقادات تأتي للإمارات حتى ممن ليسوا من التيار الإسلامي

وإذا قال البعض إن الانتقادات التي تطال المواقف الإماراتية، هي من التيارات الإسلامية سواء كانت فلسطينية أو غير فلسطينية بسبب حملة الإمارات ضدهم في كل العالم، فالأحداث تُكذب ذلك، حكام الإمارات لم يكتفوا بعداء التيار الإسلامي، إنما تخطى ذلك ليصل إلى معاداة كل حركة مقاومة للاحتلال، ففي هذا الصدد، أدانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (وهي تيار فلسطيني يساري مقاوم) بشدة تصريحات وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، والتي ساوى فيها بين الجلاد بالضحية، والتي وصف فيها الجرائم الصهيونية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني، بأنها “أعمال عنف بين طرفين”. وقالت الجبهة: “أن نضال شعبنا الفلسطيني ومقاومته وشهدائه ضد الاحتلال الصهيوني هي محط فخر واعتزاز وإجماع فلسطيني وعربي وأممي، ومن يتبنى رواية الاحتلال فهو تابع وذليل وعميل”. نفس الموقف اتخذهُ كل داعم للنضال الفلسطيني ومن مختلف التوجهات الفكرية.

ففي هذا الشأن، قال المفكر المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي، إن بعض دول التطبيع، سكتت مثل “إبليس” وخالفت موقف الشعوب العربية مثل الشيطان، كالبحرين والإمارات”. وأضاف، أن “ردود أفعال المطبعين الجدد والقدامى مع إسرائيل، وإن اختلفت، ينظمها جميعا خيط واحد، وهو الشعور بالحرج تجاه الدماء الفوارة والأرواح الصاعدة إلى ربها”

وعلى هذا، فأن أحدى أهم نتائج معركة “سيف القدس”، هي الخسارة الكبيرة لعمليات التطبيع مع “إسرائيل”، إذ ضعفت قدرة الأنظمة المطبعة على ترويج التطبيع بين صفوف شعوبها، وفقدت قدرتها على أقناعهم به. بل تغيرت المعادلة، لتكون بشكل مختلف، فالنظام الذي يساعد المقاومة هو الذي سيجني فوائدها سياسيًا. فالقيادة المصرية الحالية، لا تؤيد حماس ولا تؤيد توجهاتها، لكنهم يفهمون إن عليهم مساعدتها بأي شكل من الاشكال، وحقق السيسي انتصارًا سياسيًا كبيرًا حينما وقف لجانب حماس، فهو من ناحية، أثبت للعالم العربي أنه، إنه لا يزال أهم عامل عربي في الساحة الفلسطينية، والناحية الأخرى أثبتت مصر، إنها متقدمة على الجميع عندما تعلق الأمر بمساعدة قطاع غزة. فقامت بفتح المعبر مع القطاع وأرسلت بعض ا لمساعدات، والأهم من ذلك كله، أن نظام السيسي حصل على اعتراف الإدارة الجديدة في واشنطن بدوره الحاسم، وكان شكر حماس لمصر وقيادة السيسي، أفضل للنظام المصري من كل المساعدات التي تلقتها مصر من دول الخليج، لان شكر حركة حماس للسيسي، يعني توفير المقبولية له شعبيًا، وهذا أمر مهم لنظام لا زال يعاني من أزمةٍ في شرعيته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق