تقارير

مع رفع السرية عن التقرير الاستخباراتي الأمريكي… هل آن الأوان ليودع محمد بن سلمان حياته السياسية؟

خاص – مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

تنفيذًا لوعوده التي قطعها على نفسه، قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن، رفع السرية عن التقرير الاستخباراتي المتعلق بجريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. هذا التقرير، أشار بشكل واضح إلى مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عن مقتل خاشقجي، رغم نفي السلطات السعودية أية صلة لولي العهد بتلك الجريمة.

وبهذا الكشف، تكون الإدارة الأمريكية الجديدة، قد أزالت اللثام عن الحقيقة التي طالما حاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إخفائها، حمايةً لابن سلمان من تبعات افتضاح أمره، لأنه يعرف تمامًا، إن الإفصاح عن تلك المعلومات، سوف يستوجب من واشنطن، رفض التعامل مع محمد بن سلمان كولي للعهد، أو التعامل معه كملكٍ مستقبلًا، وهذا ما لم يكن يريده ترامب. بينما كانت إدارة جو بايدن ومنذ وصولها للبيت الأبيض، تُبيّت النية لضرب جميع من كانت له علاقة وثيقة بالرئيس السابق، وعلى رأسهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

لكن المعلومات التي كشف عنها التقرير الاستخباراتي، رغم أنها كافية لإدانة بن سلمان، إلا أنها تجاهلت المعلومات الدامغة التي تُدين بن سلمان صراحةً، حتى لا يتم توجيه التهمة الجنائية له بشكل مباشر، أنما أوردت أدلة على شكل استنتاجات وتحليلات تُفيد بإدانة بن سلمان، رغم أن هناك لدى المخابرات الأمريكية، معلومات مؤكدة تؤكد ضلوع بن سلمان في توجيه أوامر القتل بتلك الطريقة الهمجية، من تسجيلات صوتية أخذت من السلطات التركية، توثق عملية الاغتيال، وتوثق الاتصالات المتبادلة بين القتلة، وبين أصحاب القرار في الرياض، هذه الأدلة دفعت السيناتور بوب كوركر حينما أطلع عليها ليقول، “لو حوكم ولي العهد أمام هيئة محلفين، فسوف يدينونه في غضون 30 دقيقة”. بسبب وضوحها وأدلتها الدامغة التي تدين بن سلمان.

والسؤال المهم الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع، لماذا تعمَّدت إدارة بايدن اخفاء الأدلة الدامغة التي تُدين بن سلمان، وجعلتها أدلة ظنية واستنتاجية؟

ورجّح أغلب المراقبين، أن للإدارة الأمريكية رغبة بجعل الباب مفتوحًا لأبن سلمان ليخرج منه دون إدانته جنائيًا، ويترك ولاية العهد لغيره.

هل يستغل بن سلمان الفرصة الممنوحة له؟

 إن من السمات التي تُميز شخصية بن سلمان، هي فقدان الحكمة والتعقل بالأوقات الحرجة، وبالتالي فأن بن سلمان لا يُعتقد أنه سيُغلّب لغة العقل والحكمة في تعامله مع المستجدات التي قامت بها الإدارة الأمريكية، والتي من الواضح إنها لا تريد التعامل معه نهائيًا كولي للعهد أو ملكًا في المستقبل، ولديها رغبة شديدة باستبداله بأسرع وقتٍ ممكن. والحكمة في هذه الحالة، هي استغلال الفرصة الممنوحة له أمريكيًا، والتنحي من مناصبه، وتوديع حياته السياسية بهدوء، والاكتفاء بما لديه من أموال، وما يتمتع به من امتيازات كأمير في العائلة المالكة، ليبدأ حياةٍ جديدة بعيدًا عن عالم السياسية، وبعيدًا عن المملكة التي ربما لن يكون فيها أمنًا على حياته، بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحق المواطنين السعوديين وبحق أمراء العائلة المالكة.

لكن المتوقع من بن سلمان، عدم استسلامه للضغوط الأمريكية، بعد أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من الفوز بعرش الملك رسميًا، وسوف يقوم بمحاولات عديدة مع الإدارة الأمريكية، تشمل إغرائها بشتى السبل كما كان يفعل مع الرئيس السابق ترامب، وتقديم التنازلات تلو التنازلات حتى ترضى عنه وتمنحه فرصة ثانية للبقاء على مناصبه وتأمين وصوله لعرش المملكة.

وفي حال عدم استجابة إدارة بايدن لتلك الإغراءات -وهو المتوقع- فأن بن سلمان سوف يختار التمرد والخروج عن طاعة العم سام، والتمسك في الحكم بالقوة، وهو أمر لا نعلم كيف ستتعامل معه الإدارة الامريكية، لكن بكل تأكيد سوف لن تكون راضية، وستستخدم كل قوتها ونفوذها لتصحيح الأوضاع بالمملكة بالطريقة التي تلائمها وتُرضيها. وهذا الوضع سيحمل معه مخاطر كبيرة للمملكة وشعبها، نظير الحماقات التي ارتكبها وسيرتكبها بن سلمان.

الولايات المتحدة لن تتخلى عن المملكة

بالرغم من أن التقرير الاستخباراتي الأمريكي، حمَّل بن سلمان المسؤولية عن مقتل خاشقجي، لكن الرئيس الأمريكي بايدن، لم ينسى التأكيد على أن إدارتهِ ملتزمة بأمن المملكة، وعدم تأثير ذلك على العلاقة الوثيقة التي تربط واشنطن بالرياض، فيما قال وزير الخارجية الأمريكي، أن “العلاقة بين المملكة وبلاده لا تعتمد على أشخاص”. وأضاف، “واشنطن لا تزال مهتمة بعلاقتها مع السعودية.

بالمقابل، أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، إن “الرئيس بايدن سيتواصل فقط مع الملك السعودي، وأننا نُقَيِّم علاقاتنا مع السعودية”، وأضافت، “سيكون لدينا اتصالات من نظير إلى نظير، وزير الدفاع الأمريكي أجرى محادثة مع محمد بن سلمان، وهذا هو التواصل الصحيح بين النظراء”.

السعودية تطلق حملات دفاعٍ عن بن سلمان

وإمعانًا في عدم اعترافها بمسؤولية بن سلمان عن جريمة قتل خاشقجي، أطلقت السلطات السعودية، حملة تضامن واسعة مع بن سلمان على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصدر هاشتاغ “#كلنا_محمد_بن_سلمان” موقع “تويتر”، واعتبر المغردون أن التقرير اعتمد على استنتاجات وعبارات ظنية ولم يقدم أدلة، فيما رأى آخرون أنه محاولة لاستهداف الأمير محمد بن سلمان والمملكة. وتذرعوا بأن التقرير لم يقدم دليلًا دامغًا على اتهام بن سلمان بالجريمة.

فيما حاولت الصحف والقنوات التلفزيونية السعودية، تجاهل خبر إصدار التقرير، وأشارت له بإشارات وجيزة، فيما ركزت على ما قالت إنه غياب أي أدلة ملموسة. وكتبت صحيفة عكاظ، إن “الوطن محصن” مع نشر صورة كبيرة لمحمد بن سلمان وهو مبتسم.

كيف كانت ردود الفعل الدولية؟

لم يمضي حدث رفع السرية عن التقرير الاستخباراتي الأمريكي، دون أن يكون هناك ردود أفعال دولية، تباينت بين مرحبين ومستنكرين، والبعض الأخر كانت ردود افعالهم رمادية لم تريد خسارة علاقتها مع المملكة، فمن جانبها، ذكرت الخارجية البريطانية، أن “المملكة المتحدة كانت واضحة دوما بأن مقتل جمال خاشقجي جريمة مروعة، ودعونا لإجراء تحقيق مستفيض وموثوق وشفاف لمحاسبة المسؤولين والضالعين في القتل”. فيما ذهبت خبيرة الأمم المتحدة أغنيس كالامار إلى أبعد من ذلك حينما طالبت حكومة الولايات المتحدة “بفرض عقوبات على ولي العهد السعودي، واستهداف أصوله الشخصية وأنشطته الدولية”. أما وزير الخارجية الكندي مارك جارنو، فقد صرح قائلًا، “كان هذا قتلا وعملا بشعًا، وتبقى كندا تريد أن تسمح المملكة العربية السعودية بإجراء تحقيق كامل حتى نتمكن من الوصول إلى حقيقة ما حدث بالفعل”.

من جانبها أيدت دولة الإمارات بيان وزارة الخارجية السعودية بخصوص مقتل خاشقجي. وأعربت خارجيتها، عن ثقتها وتأييدها لأحكام القضاء السعودي. ذات الشيء قامت به دولة الكويت، حينما أعلنت خارجيتها، أن الكويت تؤيد ما ورد في بيان الخارجية السعودية بشأن التقرير الاستخباراتي الأمريكي.

بالمقابل كانت ردود الفعل الأمريكية عديدة ومختلفة، فقد قررت الحكومة الأمريكية، فرض عقوبات عبارة عن قيود على تأشيرات دخول 76 سعودياً، شاركوا في أنشطة ضد معارضين سعوديين. فيما كشفت عن أسماء قتلة خاشقجي الـ 21، لكن دون أن تفرض أية عقوبات على محمد بن سلمان الذي حملته المسؤولية عن جريمة مقتل خاشقجي. فيما أقدم نائبان ديمقراطيان على تقديم مشروعِ قرارٍ لمحاسبة الحكومة السعودية على مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” وارتكابها انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان. ويدعو مشروع القرار، إلى تخفيض كبير في المساعدات الأمريكية للسعودية، بالإضافة إلى “وقف عمليات نقل الأسلحة إلى المملكة طالما استمرت في التملص من المسؤولية عن مقتل خاشقجي وانخرطت في انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى”.

واشنطن تترك الباب مفتوحًا لمحمد بن سلمان

ويعتقد بعض المراقبين، أن واشنطن تعمدت ترك الباب مفتوحًا حينما لم توجه تهمة جنائية واضحة لابن سلمان حول ضلوعه بجريمة قتل جمال خاشقجي، ففي هذا الشأن، علّق المغرد السعودي الشهير “مجتهد” على تقرير الاستخبارات الأمريكي بالقول، إن التقرير أدان بن سلمان، لكن الاستخبارات الأمريكية لم تشير للمعلومات التي لديها عن اتصالات ورسائل نصية بين محمد بن سلمان وخالد بن سلمان وسعود القحطاني وآخرين.

ويُرجح أن يكون المطلوب أمريكيًا في الوقت الراهن، هو “إيجاد ولي عهد جديد للسعودية” للتعامل مع واشنطن، غير محمد بن سلمان، ولا مانع أن يكون أحد أبناء الملك سلمان الأكبر عمرًا، طالما لا يكون للأميرين الصغيرين محمد وأخيه خالد المتورطين في جريمة القتل، شأنًا بالحكم مستقبلًا. وفي هذه الحالة، فأن الأمريكان قد تركوا الباب مفتوحًا لتقرر العائلة المالكة، ما الذي ينبغي عمله لمصلحة البلد والعائلة. ذلك لأن فرض عقوبات على ولي العهد، ربما تُعرض العلاقات بين البلدين للتوتر، وهو ما لا تريده إدارة بايدن، كون المملكة لا تزال حليفًا إستراتيجيًا لها في الشرق الأوسط.

وفي هذا الشأن، أوضح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، حين سئل عن سبب عدم فرض الإدارة الأمريكية عقوبات على ولي العهد، أجاب: “إدارة الرئيس جو بايدن كانت تتطلع إلى إعادة تقييم العلاقة الأمريكية السعودية بدلًا من تمزيقها”.

لن تنفع المليارات التي أُنفقت

بعد كل المليارات التي أنفقها بن سلمان على الرئيس الأمريكي السابق، حتى يبقي على حمايته له وإبقاء التقرير الاستخباراتي تحت السرية، ذهبت أدراج الرياح، وعمدت الإدارة الجديدة على فضح أمر جريمته أمام العالم وأمام شعبه. وسوف لن تنفعه إذا ما فكر أن يغير وجهته إلى دول أخرى كروسيا والصين، لأنهما لن يكونا بالحليف المجدي مقارنة بالولايات المتحدة، خاصةً في خضم صراع المملكة مع غريمتها إيران التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع تلكا الدولتين. لقد كان يعتقد بن سلمان، أن الأمريكان لن يغامروا بكشف حقيقة ضلوعه بجريمة قتل خاشقجي، فحينما سُئل خلال حوار له مع برنامج “60 دقيقة” على شبكة CBS الأمريكية قبل سنتين، عن اتهامه بقتل خاشقجي، حينها أجاب بثقة: “هل هناك أي تقرير رسمي أمريكي يقول ذلك؟” ولم يكن يعلم أن ترامب سوف يسقط بالانتخابات وتأتي من بعدها إدارة، كان أول عمل لها، هو كشف مسؤوليته عن جريمة خاشقجي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق