تقارير

تصريحات تركي الفيصل في المنامة…بداية تحول لسياسة المملكة الخارجية، أم مجرد تبادل أدوار بين رموز النظام؟

خاص – مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

في تصريح مفاجئ للجميع، أعاد الناس لأجواء الصراع العربي الإسرائيلي ما قبل بدأ التطبيع مع هذا الكيان المغتصب. فقد استغل الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، فرصة تواجد وزير الخارجية الإسرائيلي غابي اشكنازي عبر الدائرة التلفزيونية، ليشن هجومه الكبير على دولة الاحتلال الإسرائيلي، واصفًا إياها بأبشع الاوصاف التي تعكس حقيقتها.

ومرد المفاجأة، إن تصريحات الفيصل، لا تنسجم تمامًا مع توجهات المملكة الحالية الداعمة لمسيرة التطبيع مع “إسرائيل”، واتهام الفلسطينيين بتضييع الفرص في أخذ حقهم. فما السر وراء ذلك؟ هل هي صحوة ضمير متأخرة بعد أن مضى قطار التطبيع ويكاد يصل إلى محطته الأخيرة؟ أم أنها مناورة جديدة من النظام السعودي يبتغي فيها رفع سقف الثمن الذي يريده نظير تطبيعه مع “إسرائيل”؟ أم أن هذا كله يندرج فعلًا كما يرى بعض المحللين، إنه صراع تدور رحاه بين الجناح الموالي للملك سلمان والرافض للتطبيع، وبين الجناح الموالي لولي العهد الذي يدفع بقوة تجاه المضي بطريق التطبيع مع “إسرائيل”.

في أثناء مؤتمر إقليمي عقد في عاصمة البحرين المنامة، انبرى الأمير تركي الفيصل المقرب من الملك سلمان، لمهاجمة “إسرائيل” بلهجة شديدة لم تكن مألوفة من قبل أي مسؤول سعودي حالي أو سابق. واصفًا إياها بـ”القوة الاستعمارية”، ولم ينسى أن يبث شكوكه الكبيرة من جدوى اتفاقات التطبيع بين الدول العربية الخليجية و”إسرائيل” مؤخرًا. ومن ضمن ما قاله الفيصل، إن “إسرائيل تقدّم نفسها بأنها دولة صغيرة تعاني من تهديد وجودي محاطة بقتلة متعطشين للدماء يرغبون في القضاء عليها”. وتابع “ومع ذلك، فإنهم يصرحون برغبتهم أن يصبحوا أصدقاء مع السعودية”. ثم عرج الفيصل على “إجراءات إسرائيل ضد الفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا وتدمير قراهم ومنازلهم كيفما يشاؤون، ويقومون باغتيال من يريدون”.

شعور “إسرائيل” بالإحباط من تصريحات تركي الفيصل

تصريحات الفيصل أغضبت وزير الخارجية الإسرائيلي اشكنازي وجعلته يشعر “بالأسف” لتصريحات المسؤول السعودي السابق، ثم كتب تغريدة قال فيها، “الاتهامات الكاذبة للممثل السعودي في مؤتمر المنامة لا تعكس الحقائق أو روح التغيير التي تمر بها المنطقة”. وأضاف “رفضت تصريحاته وأكدت أن عصر إلقاء اللوم قد انتهى. نحن في فجر عصر جديد. عصر السلام”. وفي تذكير من الوزير الإسرائيلي لتركي الفيصل بما قامت به حكومته من تسهيل لتطبيع الدول الخليجية، فقال: “الطائرات الإسرائيلية التي تطير الآن إلى الإمارات والبحرين، ما كان لها أن تفعل ذلك من دون موافقة السعودية، ونحن ممتنون جدا لهذا الدعم”.

فالجميع يعرف أن هدف “إسرائيل” النهائي، هو إقامة علاقة دبلوماسية علنية مع أكبر قوة اقتصادية وسياسية بالمنطقة، وهي المملكة العربية السعودية، وعلى هذا فأن كلام تركي الفيصل جاء محبطًا جدًا لإسرائيل، لا سيما وأنه جاء بعد اللقاء السري الذي جمع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مدينة نيوم السعودية والذي أعلنت عنه وسائل الاعلام الإسرائيلية، في الوقت الذي نفت المملكة هذا اللقاء. وفي هذا الشأن، أكدت تقارير صحفيّة غربيّة، أن تصريحات الفيصل الغاضبة، ربما جاءت نتيجة الاستياء الذي شعر به بن سلمان، بسبب تسريب بنيامين نِتنياهو أنباء عقد اللقاء السري معه في “نيوم”، لأن بن سلمان كان يرغب ببقائه سريًا.

فيما تأتي تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، متناغمة بعض الشيء مع تصريحات تركي الفيصل حينما أكد على أن قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وفق مبادرة السلام العربية عام 2002، كشرط لأي تطبيع بين المملكة و”إسرائيل”. ثم جاء البيان الصادر من مجلس الوزراء السعودي برئاسة الملك سلمان بعد أيام من تصريحات الفيصل، ليؤكد ما ذهب إليه تركي الفيصل، وأن المملكة متمسكة بمبادرة السلام العربية، والتأكيد على التضامن مع الشعب الفلسطيني، واعتبار بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية انتهاكًا صارخا للقانون الدولي.

الأسباب المحتملة التي دعت تركي الفيصل لقول ما قال

ومن كل هذه المعطيات التي أوردناها، فأننا أمام ثلاث أسباب محتملة تقف وراء تصريحات تركي الفيصل، التي تنذر بانقلاب سعودي على مواقفها السابقة في سياستها الخارجية.

أولها/ إن صراعًا يدور في العائلة السعودية المالكة حول موقفها من حملة التطبيع العربية مع “إسرائيل”، فالجناح الذي يقوده محمد بن سلمان، متلهف لإبرام صفقة التطبيع مع “إسرائيل” بأقرب وقت ممكن، وقبل وصول جو بايدن إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، بسبب خشيته من تغيير موقف الإدارة الأمريكية عما كانت عليه بالسابق بعهد ترامب، ذلك لأن الرئيس الجديد، كان قد صرح وبأكثر من مناسبة، امتعاضه الشديد من سياسة المملكة المنقادة من قبل بن سلمان، وأنه عازم على إثارة ملفاته القذرة والمتعلقة بحربه ضد الناشطين السعوديين، وانتهاكاته بملف حقوق الانسان في حرب اليمن. وبالتالي يعتقد بن سلمان وفريقه أن التطبيع مع “إسرائيل” سوف يفرمل الاندفاعة التي جاء بها “جو بايدن” ضد بن سلمان، بسبب ما يُعرف عن “بايدن” من ولاءٍ للصهيونية، وانحياز كامل المصالح إسرائيلية.

بالمقابل فأن جناح الملك سلمان وفريقه يرى أن التطبيع المجاني مع إسرائيل سوف لن يخدم مصالح المملكة، وسيؤثر سلبًا على مكانتها في العالمين العربي والإسلامي، يُذكر أن معلومات تُفيد، بأن الملك سلمان لم يكن لديه علم بحُدوث لقاء “نيوم” الثّلاثي الذي جمع بن سلمان بنتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي بومبيو، أو حتّى لديه علم بفتح أجواء المملكة أمام الطائرات الإسرائيليّة. وبالتالي فأنه هذا الجناح يرى إن البقاء على موقف المملكة السابق من هذه القضية، واتخاذ القضية الفلسطينية كورقة ضغط أمام الغرب، يستطيع خلالها ضمان مصالح المملكة في حال ممارسة أية ضغوط على المملكة. ويرجح البعض، وجود خلافات جديّة بين جناح الملك سلمان، ودولة الإمارات، يتّضح ذلك من خِلال تشكيك الفيصل باتّفاقات السّلام الأخيرة التي عقدتها الإمارات حينما قال، “لا يُمكنك علاج جرح مفتوح باستِخدام مُسكّنات الألم”، بالمقابل كان مستشار بن زايد الأكاديمي عبدالخالق عبدالله، قد قال تعليقًا على المصالحة القطرية السعودية، “لن يكون هُناك مُصالحة قطريّة سعوديّة دُون مُوافقة أبوظبي”. لكن مع ذلك، يبدو أن افتراض وجود خلاف بين الملك وأبنه، غير كافي لتفسير تصريحات تركي الفيصل الأخيرة، بسبب إن المعطيات الموجودة بالسابق، تبرهن على أن الملك هو من أشد الداعمين لسياسات أبنه منذ توليه ولاية العهد حتى الأن، ولم يذكُر لنا الإعلام ولا التسريبات، بأن هناك خلافًا حقيقيًا قد حدث بينهما طيلة الفترة الأخيرة.

ثانيًا/ أن تكون العائلة المالكة بضمنها الملك وأبنه، قد وصلا لقناعة راسخة، بأن المضي في مسيرة التطبيع سوف تضر بمصلحة المملكة، ومن الضروري فرملة هذا المسيرة ريثما تتوضح الصورة بعد وصول جو بايدن لرئاسة البيت الأبيض. وبالتالي فأن تصريحات تركي الفيصل غير الرسمية، فيها رسالة إلى الإسرائيليين والأمريكيين، بأن المملكة ليس سهلًا عليها الإقدام على خطوة التطبيع، بالرغم من عدم اعتراضها على تطبيع باقي الدول، وأن المملكة تحاول إصلاح الضرر الذي لحق بها عند الشعوب العربية والإسلامية، بسبب مواقفها المؤيدة للتطبيع، وتنتظر فرصة أفضل لإعلان التطبيع، لكن هذا لا يمنع من اتخاذ خطوات تطبيعية مع “إسرائيل” دون الإعلان عنها بشكل رسمي. هذا يعني، أن لا خلاف بين الملك الأب وأبنه، وأنهما متفقان على هذا السيناريو، وما يعضد قوة هذا السيناريو، انه جاء على لسان تركي الفيصل، والذي كان أول من صرَّح برغبته في زيارة إسرائيل قبل انطلاق قطار التطبيع الحالي، وهو أول مسؤول سعودي التَقى المسؤولين الإسرائيليين وصافحهم علنًا، وتحت الأضواء.

أما السيناريو الثالث/ فهو أن المملكة وقيادتها، تمُر بحالة صحوة ضمير متأخرة، جعلها تقلب طاولة التطبيع على من شارك فيها، وتقوم بإعادة خطابها القديم المدافع عن الحقوق الفلسطينية، بسبب شعورها بالمسؤولية عما حصل بحقهم، حينما سكتت عن تطبيع أقرب الدول إليها كالإمارات والبحرين، وهي بالتالي تريد أن تفرمل حملة التطبيع هذه، والرجوع إلى ما كان عليه الموقف العربي الرافض للتطبيع والمؤيد للحقوق الفلسطينية وبقيادة سعودية كما كان ذلك في السابق. ويذهب البعض إلى اعتبار التّقارب السّعودي الأخير مع كل من قطر، وتركيا، دون الرجوع إلى الدول الثّلاث المشاركة في مقاطعة قطر، على إنها خطوات جاءت نتيجة تلك المراجعات السعوديّة بسبب تراجع مكانة المملكة وهيبتها وزعامتها للعالمين العربيّ والإسلاميّ.

هذا السيناريو لتفسير الأحداث، ربما هو اقل السيناريوهات حظًا، رغم أن القيادة السعودية وإعلامها اليوم يوحي للأخرين، بأن هذا هو موقفها الجديد الذي انتهت إليه، وأمرت تركي الفيصل ليشن هجومه الكلامي على “إسرائيل”. ومن أسباب ضعف هذا السيناريو، إن تركي الفيصل الذي هاجم “إسرائيل”، لم يفوّت فرصة الهجوم على فصائل المقاومة الفلسطينية مثل “حماس”، واتهمها بأنها تتلقى الدعم من قطر عبر إسرائيل، وهو بهذا يتهمها بشكل غير مباشر، بأنها حركة عميلة لـ”إسرائيل”. مما يعني، إن المملكة مستمرة باستهداف حركات التحرر الفلسطينية، واستهداف جماعة الاخوان التي تنتمي حركة حماس لها فكريًا.

وبالتالي فأن السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحًا لفهم التغييرات التي طرأت على خطاب المملكة، وأن تبادل الأدوار بين الملك وولي عهد، هو أمر قد جرى الاتفاق عليه مسبقًا، لأن من المستحيل على مواطن سعودي سواء كان أميرًا أو شخص عادي، أن يمتلك الجرأة للإدلاء بمثل هذه التصريحات التي أدلى بها الفيصل دون ضوءً أخضرًا من ولي العهد محمد بن سلمان. هذا ما أثبتته التجارب في السنوات الأخيرة، والتي دفع كثير من الامراء والناشطين حياتهم ثمنًا لمواقف سياسية أقل أهمية من موقف تركي الفيصل بكثير. والذي يثبت الضوء الأخضر من بن سلمان، هو حملة التأييد لتصريحات الفيصل بالإعلام السعودي، وحملة التأييد الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي المسيطر عليها من قبل جيوش بن سلمان الالكترونية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق