تقارير

هيئة كبار العلماء في السعودية تتحول من حليف إلى مجرد تابع للسلطة السياسية

خاص – مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

اتسمت العلاقة بين المؤسسة الدينية المستندة على (التراث الفكري الديني لمحمد عبد الوهاب)، وبين المؤسسة السياسية المتمثلة بأمير الدرعية ومؤسس الدولة السعودية الأولى عام 1744، محمد بن سعود آل مقرن، بالمنفعة المتبادلة لحفظ أحدهما الأخر. وتمتعت المؤسسة الشرعية الدينية، باهتمام آل سعود الممسكين بالسلطة، بدءا من تحالفهم مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصولا لمحمد آل الشيخ سليل عائلة محمد عبد الوهاب، ونالت المؤسسة الدينية، شرعية وقوة بفضل هذا التحالف، وبقيت شرعية المؤسسة الدينية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسلطة ومساراتها وخياراتها السياسية لا يمكنها أن تحيد بعيدًا عنها، لكن مع ذلك بقيت لهذه المؤسسة الدينية هامش لا بأس به من الخصوصية والاستقلالية في ما يخص الشأن الديني، لكن التغيير الذي شهدته المملكة في عهد سيطرة بن سلمان على مقاليد الحكم الفعلية، انعكس بشكل قوي على المؤسسة الدينية، وبدئنا نشهد حالة صمت في المؤسسة الدينية تجاه قضايا عديدة كانت تعتبرها فيما سبق في صلب اختصاصها، وامتنعت عن أبداء معارضتها لتصرفات بن سلمان البعيدة عن المسلمات التي كانت تؤمن بها، حتى في ادنى حدودها، كصمتها إزاء حملة الاعتقالات التي شنَّها بن سلمان تجاه المشايخ في المملكة، وصمتُ الهيئة إزاء محاولات بن  سلمان لإدخال العادات والممارسات الغربية للمجتمع السعودي رغم اختلافها بشكل صارخ مع المسلمات الدينية التي يؤمن بها شعب المملكة، مما شكل صدمة للمواطنين. وبدأ الحديث يدور حول طبيعة التغييرات التي بدأت تطرأ على العلاقة الرابطة بين المؤسستين الدينية والسياسية في المملكة.

المؤسسة الدينية تروج لما تريده المؤسسة السياسية منها

المؤسسة الدينية كانت في السابق، توافق على ما تقوم به المؤسسة السياسية في قراراتها الكبرى، انطلاقًا من فهمها بأن هذا التصرف من شأنه أن يحافظ على أمن المملكة وبقائها قوية، وتُبقي العلاقة بين المؤسستين على سابق عهدها من القوة والمتانة، لكنها اليوم وفي عهد بن سلمان، أصبحت المؤسسة الدينية، مضطرة لتوافق على كل ما يريده حتى بأصغر القضايا، وتجد نفسها مجبرة على الترويج لكل ما يفعله بن سلمان أو ما يريد أن يفعله، ناهيك عن سكوتها أمام حملات السخرية التي تواجهها من قبل الفنانين والجيوش الالكترونية المدعومة من قبل ولي العهد. حيث اتجهت المملكة بقيادة بن سلمان، إلى التخفيف من التمسك بالمفاهيم الأساسية لدعوة محمد بن عبد الوهاب، ويحاول القائمون على المؤسسة الدينية برئاسة آل الشيخ، تطويع المفاهيم الإسلامية، بما ينسجم مع رؤية ولي العهد 2030 بالانفتاح المجتمعي.

بدأ المشايخ المحسوبون على السلطة السياسية، بتبني تفسيرات دينية جديدة تتيح الأفعال التي يقوم بها بن سلمان، فيما وجه الأخير ضربات عديدة لهذه المؤسسة الدينية، حدَّت كثيرًا من سلطتها وصلاحياتها ونفوذها بالمجتمع السعودي، وكمثال على ذلك، تعطيل دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتقال عشرات الأئمة والخطباء والدعاة، بدعوى التطرف أو الانتماء للإخوان المسلمين، كما شملت الحملة اعتقال أساتذة الجامعات ورموز ما عرف بـ”تيار الصحوة”، والذين كانت المؤسسة السياسية راعية لهم قبل استلام محمد بن سلمان ولاية العهد.

واضطرت المؤسسة الدينية إلى تبني كل القرارات التي أقدم عليها بن سلمان، فقد اعتبرت هيئة كبار العلماء وهي (أكبر مؤسسة تمثل السلطة الشرعية في المملكة)، وعلى لسان رئيسها عبدالعزيز آل الشيخ، أن قرارات مقاطعة السعودية لدولة قطر فيه مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين، واتخذت الهيئة موقفًا مناهضًا لحركات الإسلام السياسي، ورأت منهج الإخوان المسلمين، قائم على الخروج على الدولة. كما تُحذر الهيئة من الانتماء للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لأن مقرها في قطر، ولأنه ينطلق من أفكار حزبية ضيقة (حسب رأيها).

تغييرات هامة في هيكلية هيئة كبار العلماء في المملكة

وبعد كل هذا التهميش المتعمد لهيئة كبار العلماء في المملكة، يقوم بن سلمان، بإحداث تغييرات هامة وجديدة في هيكلية هذه الهيئة، كما حدث من قبل حينما قاد تغييرًا في هيكليتها في عام 2017. ففي 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز، سلسلة من الأوامر الملكية، أعاد فيها تكوين هيئة كبار العلماء، بالإضافة إلى مجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا. حيث أضاف خمسة أعضاء إليها مع احتفاظ 15 منهم بمناصبهم فيها، وبرئاسة مفتي المملكة، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ. مع العلم أن هيئة كبار العلماء، والتي هي أعلى هيئة دينية، تأسست عام 1971، لإبداء المشورة الدينية للمسؤولين في الدولة بخصوص القضايا التي تُطرح عليها.

وتضم الهيئة شخصيات مثيرة للجدل، مثل الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى، وهو الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والذي يعتبر أحد أهم أذرع ولي العهد في إحداث التغيير في مجتمع المملكة. وأبدى العيسى الكثير من التودد للإسرائيليين خلال رئاسته الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، وشارك في حوارات مع قيادات دينية يهودية. وتعهد العيسى بالتزام المملكة بإعادة جسور الحوار والبناء مع المجتمع اليهودي. كما أنتقد العيسى، معاداة السامية. وفيما يخص التصريحات غير المسؤولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قالت صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، إن الرئيس ماكرون، تلقى حليفا غير منتظر، في الحرب على “الإسلاميين”، يتمثل بمحمد العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي. حيث أشارت الصحيفة إلى أن العيسى استنكر فيها ما وصفها “بتصرفات المسلمين أو الذين يدعون ذلك بأنهم يعطون صورة سيئة للدين الإسلامي عبر التطرف والتعصب والأفعال الإرهابية”، وذلك بعد حادثة قتل مدرس فرنسي لنشره صورًا مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأضافت الصحيفة، أن العيسى، أعرب عن معارضته لـ”استيراد الأئمة من الخارج”، مشددا على ضرورة “تدريب الأئمة داخل التراب الفرنسي وأن تكون الخطب متوافقة مع البيئة المحلية، لأن أئمة الخارج يأتون بثقافتهم وحياتهم”. ورأت الصحيفة بأن الموقف السعودي متمثلًا بتصريحات عضوة هيئة كبار العلماء السعودية، يتماشى مع الحملة التي يشنها “الإليزيه” ضد الجالية المسلمة.

أما الشخصية الثانية التي دخلت لهيئة كبار العلماء، فهو النائب العام، الشيخ سعود بن عبد الله بن مبارك المعجب، وهو شخصية كثيرة الجدل، فحينما كان يشغل منصب النائب العام في المملكة عام 2017، شهد نفس العام، تعين محمد بن سلمان وليًا للعهد. ومنذ تلك السنة، شهدت المملكة مزيدًا من حملات الاعتقال التي طالت أمراء ووزراء ورجال أعمال وقادة رأي ودعاة وعلماء دين وأكاديميين. ورافق شغوله لهذا المنصب، إزاحة محمد بن نايف عن ولاية العهد، واغتيال الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، كما طالب المعجب عام 2018، بإنزال عقوبة الإعدام بالداعية السعودي المعتقل المعروف، سلمان العودة، بتهم تتعلق بالإرهاب والتطرف.

هيئة كبار العلماء، لم يُعرف عنها تبنيها لمواقف تجاه الانتهاكات التي تعرض لها الدعاة وعلماء الدين في السجون والمعتقلات في عهد بن سلمان، بالإضافة إلى التزامها الصمت ما يتعلق بسجناء الرأي وانتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع في سجون المملكة، وعلى هذا فأن من المرجح لن تقع قطيعة بين هذه المؤسسة الدينية وبين النظام السعودي الحاكم ما دامت الهيئة بصف النظام وتقدم له خدمات جليلة وكذا الحال لأبن سلمان. وبعد اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، غاب عن مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ تماماً، أن يذكر ذلك ويبدي استنكاره لهذه الفعلة، ولزم الصمت، وإذا ما نظرنا بإمعان في العلاقة الآخذة في التقارب بين “إسرائيل” والسعودية، فإن استغرابنا لمواقفه سيزول حتمًا.

أما البيان الذي أصدرته هيئة كبار العلماء التي يترأسها هو، فلم يكن إلا محاولة للهروب من واجبها المفترض أن تقوم به كمؤسسة دينية، وجاء بيانها مخيبًا للآمال، تشوبه لغة الخنوع، وخلا من أي انتقاد للخطوة التي أقدم عليها ترامب، ولجأت إلى غضّ الطرف عما يحصل.

حتى الدور السعودي الحالي بتشجيع الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، لم نرى للهيئة دورًا في استنكار ذلك، بل بالعكس، فقد خرج بعض روز الهيئة ليبرزوا محاسن اليهود والفوائد التي تعود على المسلمين من التطبيع معهم. وما كلام السديسي عنا ببعيد. وشيئًا فشيئًا تتحول المؤسسة الدينية من شريك متحالف مع المؤسسة السياسية، إلى مجرد تابع للنظام السعودي تفعل ما تؤمر به وتخدم مصالح هذا النظام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق