تقارير

هل يُجبر “فيروس كورنا” السعودية على تقليص حضورها في الصراعات الخارجية ودعم حلفائها؟

خاص – مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

استمرت المملكة العربية السعودية بقيادتها الجديدة، وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، في ركوب موجات المغامرات الخارجية وبكافة أشكالها، سياسيةً كانت أو عسكرية. تبتغي منها صناعة مجدٍ جديدٍ لابن سلمان، يستهل به حقبته القادمة في الحكم.

ولقد رأينا آثار تلك التدخلات الخارجية، من جانبها العسكري، في اليمن وليبيا، ومن قبلهما في سوريا، أما تدخلاتها السياسية الاكثر اتساعًا وأصعب على الحصر، ربما كان أبرزها، الحصار السياسي والاقتصادي الذي تمارسه المملكة مع مصر والامارات والبحرين، على دولة قطر ومناكفة تركيا.

لكن الجديد بالأمر، الذي من المرجح أن يُفرمل تلك المسيرة من التدخلات الخارجية، هو الظلال التي ألقاها انتشار الفيروس في المملكة. ذلك لأن تأثيرات هذا الفيروس، ابتعدت كثيرًا عن تأثيراتها الصحية فحسب، حيث وصلت في تأثيراتها السيئة إلى الاقتصاد السعودي. فالجميع يعلم كيف أن انتشار جائحة الفيروس في العالم، أثر كثيرًا على مستوى استهلاكها للنفط بسبب توقف مصانعها، وتوقف الحركة السياحية التي اتبعها توقف حركة السفر بشكل كبير، وتأثرت أسعار النفط بذلك، لتتهاوى إلى مستويات قياسية لم تصلها من قبل.

الرفاه الريعي أصبح من الماضي

منذ أمد بعيد بعد اكتشاف النفط في المنطقة، اعتمدت دول الخليج ومنها السعودية على بناء نموذج “الرفاه الريعي”، والذي استمر لأجيال‏، كانت تبتغي أنظمة تلك الدول،  الحصول على دعم شعوبها للعوائل الحاكمة لتلك البلدان. لكن بعد انخفاض الأسعار بشكل كبير عام 2014، استدركت تلك الدول إن عليها تغيير هذا النموذج، والذي عادة لا يصلح مع انخفاض واردات النفط التي تعتمد عليها بشكل شبه أساسي في موازناتها المالية، الأمر الذي جعلها تغامر بتحمل تبعات هذا التغيير الوخيمة، والتي ستؤثر لا محالة على مستوى تأييد شعوبها. فقامت السعودية وباقي دول الخليج بفرض ضريبة القيمة المضافة، وتطبيق حزمة إصلاحات مالية كبيرة، تتضمن تخفيضات في دعم الوقود والمياه ‏وغيرها من الإعانات، وخصخصة أصول الدولة وتخفيضات في الوظائف الحكومية والمزايا.‏

تركت هذه التغيرات على المواطنين في المملكة أثرا بارزا، كونها أكبر الدول الخليجية من ناحية الكثافة السكانية، وجعلهم يتساءلون عما إذا كانت هذه الجولة من الإصلاحات المالية، هي الخطوة الأولى نحو انزلاق اقتصادي كبير، ‏ينتهي بانهيار نظام الرعاية الاجتماعية.‏ وما عزز تلك المخاوف، هو إعلان السعودية عن مضاعفة ضريبة القيمة المضافة إلى ثلاث مرات، لتصل إلى 15% عما كانت عليه قبل أربع سنوات، وتخفيض بدل تكلفة المعيشة للمواطنين.

لم تكن تلك الإجراءات التقشفية التي طبقتها السعودية ناتجة فقط عن انخفاض أسعار النفط بسبب انتشار جائحة كورونا، إنما كانت بسبب تدخلاتها الخارجية، التي أثرت بشكل كبير على تداعي الاقتصاد السعودي، ترجمت بعد ذلك، على شكل نقمة من ابن سلمان وسياساته المتهورة، هذا ما كانت قد تنبأت به مجلة “كابيتال” الفرنسية التي ذكرت “أن الإجراءات التقشفية المثيرة للدهشة التي قامت بفرضها المملكة، قد تؤجج على المستقبل القريب، الاستياء ضد ولي العهد محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للبلاد، خاصة أن المملكة قامت قبل الأزمة، بإنفاق مبالغ كبيرة جداً في غير محلها، كالإنفاق على الترفيه والأحداث الرياضية الكبرى، أو حتى صندوق الاستثمار العام.”

تداعي الاقتصاد السعودي لن يقف فقط عند العجز في تمويل ميزانيتها فحسب، بل سيؤدي إلى غضب واسع بين أوساط شعب المملكة، لاسيما وأن البطالة وصلت إلى ‏نحو 12% نهاية عام 2019. ‏

عام 2020 على غير ما كانت تتوقع السعودية

كانت الدولة السعودية تتأمل خيرًا مع بداية عام 2020، وتوقع ‏المسؤولون السعوديون أنهم سيتنفسون الصعداء، ويتمتعون بعام جيد، بسبب ‏تحسن أسعار النفط وانتعاش نسبي للاقتصاد غير النفطي، ‏بالإضافة إلى أن المواجهات المسلحة في اليمن، بدأت تشهد جمودا نسبيا، كما أن من الواضح أن العالم قد بدأ يتجاوز ‏موضوع مقتل الصحفي جمال خاشقجي.‏ لكن أحلام المملكة بدأت بالانهيار، بعد مرور شهر واحد من العام الجديد، حينما بدأ فيروس كورونا بالتفشي بالصين، وهي الوجهة الأهم والأكبر للنفط السعودي. صاحب ذلك تراجعًا في الطلب على النفط، وانخفاضا نسبيا في الأسعار بسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني.

لم يتوقف الكابوس السعودي عند هذا الحد، عندما تجاوز الفيروس حدود الصين، ليصل جميع الدول الصناعية، مسببًا ركودًا عالميًا، زاد من تورط المملكة السعودية في هذه المشكلة، دخولها بحرب أسعار لا قبل لها مع الدب الروسي، لتجد المملكة نفسها تواجه عجزًا ماليًا غير مسبوق. حتى طرق الفيروس أبواب المملكة، ليجعلها أكثر الدول العربية والخليجية بعدد الإصابات، وفرض عليها التعامل مع تداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية، من اتباع سياسات إغلاق موسعة، وتعطيل لأنشطتها الاقتصادية، واضطرت لإطلاق حزم تحفيز مالية لدعم الفئات المتضررة. الأمر الذي كلَّف المملكة، خسائر كبيرة غير متوقعة.

ومع استمرار تراجع أسعار النفط، لفترة ربما ستكون طويلة، ستضطر السعودية لسحب أموال من صناديقها السيادية بمعدلات أعلى مما كانت تنويه في الأصل، وهي أموال كان الهدف منها، دعم سياسات المملكة طويلة المدى، مثل خطط التنويع الاقتصادي، والتدخل العسكري في اليمن، ومواجهة إيران، بالإضافة إلى دعمها للحرب على ثورات الربيع العربي وجماعة الاخوان بكل دول العالم. وتُشير التقديرات إن هذه الخسائر التي منيت بها السعودية، ستجبرها على تقليص حضورها في الصراعات خارج الحدود وتقليص دعمها لحلفائها الإقليميين، من أجل توفير الأموال لإنقاذ اقتصادها المتداعي.

خسارة جيوسياسية

كان للاتفاق النفطي الأخير بخفض الإنتاج، تداعيات جيوسياسية كبيرة على المملكة من ناحية تآكل نفوذها في سوق النفط، فقد كان لنجاح منتجي النفط في ضبط الأسواق مجددا بشكل جزئي، ثمن جيوسياسي باهظ دفعته السعودية، وباتت الرياض مضطرة للاعتراف بأنها غير قادرة على التحكم في أسعار النفط بمفردها، وإن الطريق بدأ ممهدًا لظهور نظام نفطي جديد تحت اسم “أوبك بلس” بعد أن اضطرت الدول الأعضاء في أوبك للاتفاق مع 11 دولة خارج المنظمة لخفض الإنتاج بشكل مشترك، لقد كان اتفاق “أوبك بلس” اعترافًا سعوديًا بروسيا كقوة مُهيمنة لا غنى عنها في أسواق الطاقة. ليس هذا فقط، فقد بدت الولايات المتحدة اليوم، طرفًا ثالثًا يتحكم بالسوق النفطي، وروسيا والسعودية ستبقيان عاجزتان عن الوصول لطريقة إدارة السوق لوحدهما بدون تدخل واشنطن، فلولا مشاركتها، لما تم اتفاق خفض الإنتاج الأخير. السعودية تجد نفسها بقيادة ابن سلمان، مضطرة للتراجع خطوة أخرى للوراء، والقبول بمشاركة واشنطن بإدارة سوق النفط.

ومن هذا نجد أن من الصعب على المملكة السعودية مستقبلًا أن تكون لاعبًا دوليًا كبيرًا بعد أن فقد النفط أهميته السابقة، وسيكون متعذرًا عليها المحافظة على وضعها الحالي أيضًا داخل النظام الدولي في السنوات القليلة المقبلة، لأن النفط هو سبب نفوذها على الساحة الجيوسياسية، ووفر لها مكانة بين القوى الكبرى، ومنحها عضوية مجموعة العشرين، ومكنها من شراء ولاءات السياسيين، وتوظيف جماعات الضغط والنفوذ.

خسارة المكانة الدينية

تداعيات فيروس كورونا لم تتوقف على حرمان السعودية من أسعار مناسبة لنفطها فقط، بل دمر السياحة الدينية عندها، ثاني أهم مصادر الإيرادات للملكة بعد النفط، بسبب الاغلاقات التي تتبعها نتيجة انتشار هذا الفيروس. فالموسم الحالي ألغيت فيه العمرة لشهر رجب وشعبان ورمضان، ومن المتوقع أن لا يكون هناك موسم حج لهذه السنة، وبغض النظر عن الخسائر المالية لإلغاء الحج والعمرة لهذه السنة، فالخسارة الأكبر للمملكة، هو الضرر البالغ الذي أصاب مكانة البلاد الرمزية وشرعيتها الدينية كقائد للعالم الإسلامي. وألحق أضرارا دائمة بأجندة بن سلمان، بعد ‏فقدانه لطقوس التمجيد الخاصة به، في مشاهد الحشود الشابة التي تُعبِّر عن فرحتها في ‏حفلات البوب ومباريات الملاكمة وملاعب الكرة، بسبب اختفاء هذا الصخب لهذه ‏الحشود. وعاجلًا، سوف يكتشف صُنّاع القرار في المملكة، أن بلادهم ليس بإمكانها أن تكون رائدة ‏في الترفيه مثل دبي، ولا تملك المقومات الديموغرافية والجيوسياسية ذاتها التي ‏تمتلكها القاهرة أو أنقرة، وأن مجالها الوحيد الذي بإمكانها ممارسة نفوذها في العالم ‏الإسلامي هو المجال الديني، وإذا ما أستمرت المملكة باتباع سياسة ابن سلمان، فإنها ‏سوف تنحسر تدريجيا وستنكفئ على نفسها، لمواجهة تحدياتها الداخلية، وسوف تبدأ ‏شرعية النظام السعودي الداخلية تنكشف هي الأخرى شيئًا فشيئًا.‏ كما وأن تورط المملكة في التدخل بشؤون الدول الأخرى، والنزاعات الإقليمية داخل البلدان الإسلامية منذ ثورات الربيع العربي، وتوسُّعها في ممارسات تسيس الحج، تسبّب في ظهور دعوات لتدويل إدارة الحرمين الشريفين، بل ومقاطعة الحج في حال رفضت السعودية تغيير سياستها تجاه دول شعوب العالم الإسلامي.

لقد أدخل فيروس كورونا المملكة السعودية في سياقات جديدة أفقدها الريادة بأمور عديدة، ‏ربما أهمها فقدانها قيادة السوق النفطي العالمي، وتراجع مكانتها في العالم الإسلامي، ‏وانكفاؤها المحتمل على ذاتها لمواجهة أزماتها الاقتصادية وتوتراتها الداخلية، وهي سياقات ‏واتجاهات لن تُرضي طموحات بن سلمان بالتأكيد، لأنها ستجعله مقبلا على حكم دولة ‏على غير شاكلة الدولة التي حكمها أباؤه وأعمامه، فهي متخلفة اقتصاديًا ومنبوذة من ‏شعبها وباقي شعوب المنطقة، ومكانتها في العالم ليست نفس المكانة التي كانت عليها من ‏قبل. ‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق